في التوتر الديداكتيكي: Administrator User
Administrator User

في التوتر الديداكتيكي

07/04/2015 17:38

لا يقتضي بناء المعارف فقط قدرة المتعلم على استعمال عُدَّة تقنية فحسب، بل يستوجب أساسا تكوين حالة ذهنية لديه، إذ ينبغي أن يكون راشد المستقبل قادرا على تقدير الرهانات وتحدِّي الذات والآخر في آن.

في التوتر الديداكتيكي

محمد بوبكري 

لا يقتضي بناء المعارف فقط قدرة المتعلم على استعمال عُدَّة تقنية فحسب، بل يستوجب أساسا تكوين حالة ذهنية لديه، إذ ينبغي أن يكون راشد المستقبل قادرا على تقدير الرهانات وتحدِّي الذات والآخر في آن.

يلاحظ المتأمل في نظامنا التعليمي أن التدريس عندنا لا يعد الفرد للوعي بالرهانات المحلية والكونية، حيث يقوم على طرائق وقواعد... لا تمكن من أكثر من المواجهة الآلية لوضعيات معروفة ومتكررة، كما لا تُعلم سوى طاعة القواعد المعمول بها في المدرسة... وللتدليل على ما نقول، يكفي أن ننظر إلى ما تقتضيه الامتحانات المدرسية عندنا، وإلى كيفية تحضيرها. نحن نسير في الاتجاه المعاكس للتوجهات التربوية الحديثة التي تركز على ضرورة اكتساب المتعلم للقدرة على خلق قيم جديدة أكثر من الحفاظ على القديمة (L. Cros, 1981). وفي إطار هذه الدينامية، يشكل تجاوزُ الذات لذاتها ومواجهة التحديات قواما حقيقيا لبناء المعرفة والإنسان في آن...

لقد كانت الطريقة الحوارية السقراطية تعري التناقضات القابعة في الفرد، فتفرض عليه مواجهة ذاته. وإذا كان التعلم ليس إضافة معارف جديدة إلى أخرى قديمة، فإن مواجهة الفرد لتمثلاته الخاصة تصبح مقاربة أساسية يجب استغلالها في التدريس. ألم يقل ج. بياجيه J. Piaget ذاته إن التعلم هو تجاوز سلسلة من الصراعات؟

إننا نتعلم مع الآخرين وبهم، وذلك عبر التبادلات والمواجهات والشك في بعض التمثلات... وإذا كنا نستعمل الآخرين في تعلمنا، فإننا نساعدهم أنفسهم في تعلمهم. وهذا ما يبين الأهمية الكبرى للصراع السوسيو-معرفي في التعلم.

إن التعلم من أجل ذاتنا هو أيضا تعلم من أجل الآخرين، لأنه يؤدي إلى الاستخدام الاجتماعي للمعارف المكتسبة، ممَّا يكشف عن معنى المعرفة ودورها.

إذا كان من غير الممكن الفصل بين بناء الإنسان لذاته وبنائه لمعرفته، فإن بناءهما لا يكمن فقط في وضع المتعلم أمام صعوبات، بل وكذلك في القدرة على تجاوزها. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن يتحول الإنسان إلى فاعل قادر على ركوب المخاطر. لكن عندما ننظر إلى ما يقوم به تلاميذنا، فإننا نجدهم يقفون جامدين عند ظهور مشكلة معينة أمامهم، وينتظرون من يأتي لنجدتهم عبر تزويدهم بما يجب فعله! ويعود موقفهم هذا، بشكل كبير، إلى العادات التي تكونت لديهم منذ صغرهم داخل أوساطهم الأسرية. لكن لا ينبغي اتخاذ هذا ذريعة لنفي مسؤولية المدرسة نفسها عن ذلك.

تبعا لذلك، يجب أن تُعلم المدرسة التلاميذ كيفية تجاوزهم لذواتهم، لأن انخراطهم في البحث يحركهم ويثير فضولهم المعرفي ويشجعهم على التفكير والالتزام والفعل. أما إمدادهم بكل التسهيلات، فلا يؤدي سوى إلى شلهم. أضف إلى ذلك أن تجاوز عائق معين من لدن المتعلم قد يشكل محركا يؤهله للدخول في دينامية جديدة تجعله ينخرط في مشروع آخر...

وهكذا يجب تطوير وضعيات تعلُّمية تخلق لدى المتعلم جرأة على الشك ليبحث ويبتكر ويمنح الثقة لما يمكن أن يظهر طوباويا أحيانا. كما ينبغي عدم رفض كل ما هو غريب وغير متداول. فغالبا ما يواجه الباحثون الأمر نفسه عندما يضطرون للشك في ما وضعه أسلافهم وأساتذتهم الذين يحترمونهم. إن هذا أمر صعب، لكن مهمة الباحث تقتضي جعل الممكن معروفا والحلم بتحقيق ما هو غير ممكن.

انسجاما مع ذلك، يغدو من الضروري أحيانا عدم الاكتفاء بالفهم، إذ يجب أيضا الالتزام، ما يقتضي الانتقال من الكوجيتو الديكارتي " أفكر، إذن أنا موجود" إلى ما قاله كامو Albert Camus "أتمرد، إذن أنا موجود".

لا يسري هذا الكلام على التلاميذ وحدهم، بل يهمّ أيضا المدرسين الذين ينبغي أن ينخرطوا باستمرار في تنويع مقاييسهم وممارساتهم وتجديدها عبر استعمال خيالهم... قد يظهر للبعض أن في هذا نوعا من التمرد، لكن ما لا يتم الانتباه إليه هو أن عدم إقدام المدرسين على فعل ذلك يغلق أمامهم أبوابَ التكيف مع ظروف التلاميذ المعقدة، ويحول دون تمكين هؤلاء من الانخراط في إنتاج المعرفة... ويرى فليب ميريو Ph. Meirieu أن المدرسة تلزمنا بأن نفصح عمن نحن وما نحمله في ذواتنا، في حين يجب أن يعمل البيداغوجي كل ما في وسعه من أجل التلاميذ... ويحترس من المدرسة ! (Ph. Meirieu, 1993).

وهكذا، يجب ألا يتخذ الكتاب المدرسي طابعا قدسيا يلزم الجميع باتباعه حرفيا، إذ لا يمكنه أن يتضمن أجوبة عن كل أسئلة التلاميذ والمدرسين، وأن يقدر على التكيف معهم في كل الأحوال والظروف. كما أنه لا يستطيع تطبيق ذاته بذاته، ولا أن ينوب عن المدرسين والمتعلمين في التعليم والتعلم.... فينبغي أن يكون مجرد إطار عام يتضمن توجهات عامة وأمثلة...، ولا يمكنه أن يكون فعالا إلا عبر انفتاحه على كتب أخرى، وعلى خيال التلاميذ والمدرسين والمؤطرين التربويين... وتبعا لذلك، فإنه كتاب قابل للإثراء والتجاوز,,,

قد يبدو ما نقوله منطويا على دعوة إلى التمرد، لكن طبيعة بناء المعرفة هي التي تستوجب ذلك. إنها فعل عميق، وليست مجرد إضافة معارف إلى أخرى. ويعني ذلك أن أنها تتطلب خيالا وانفتاحا وإرادة ومثابرة...

وإذا كان الواقع بطبيعته معقدا، فإن التعلم يتطلب وضع التلميذ في وضعيات تدريسية معقدة. لكن هذا لا يعني تطوير وضعيات جد صعبة تتجاوز بكثير القدرات العقلية الحالية للتلاميذ، إذ سيجعل ذلك المدرسين يعتقدون أن هذا النوع من الوضعيات هو اختيار بيداغوجي غير ملائم. فالوضعية المعقدة تطرح صعوبات قابلة للتجاوز من قِبَلِ المتعلم، لأنها مثيرة لفضوله وجذابة له، حيث تساعده على تكوين نظرة شمولية للواقع وتحفزه على الانخراط في التعلم من تلقاء نفسه. لكن هذا يستلزم امتلاك المدرس لعُدّة تدريسية ملائمة وفعالة...

وتجنبا للسقوط في العقم التربوي، تقتضي التدريسية حاليا معرفة المدرس كيفية تدبير التوتر الديداكتيكي، وتجنبه شحن التلميذ معرفيا بشكل زائد عن الحد.

ويعني التقدم، عند التلميذ، الذهاب نحو ما لا يعرفه بعد. ولذلك، يتعين منحه مكانا للتفكير والفعل والإنتاج، ما يفرض على المدرس أن يكون أكثر أو أقل بعدا عن المتعلم حسب تقديره لدرجة الصعوبة التي يواجهها هذا الأخير. فعند مواجهة التلميذ لصعوبة كبيرة، ينبغي أن يكون المدرس قريبا منه لطمأنته وإثارته وتشجيعه على التفكير واستعمال طاقاته ومكتسباته المعرفية في اتجاه بناء معرفة جديدة، دون أن ينوب عنه في ذلك. وعليه، يجب على المدرس أن يوازن التوتر الديداكتيكي tension didactique القائم بين المعارف التي يتوفر عليها التلميذ والمعرفة الجديدة التي يريد له أن يكتسبها. وهكذا، يلزمه أن يخلق توترا بينهما يمكن أن يساعد التلميذ على بذل مجهود أكبر، ما يفرض على المدرس اتخاذ الاحتياطات البيداغوجية الضرورية لتجنب خلق هوة تُعَرِّضُ العلاقة بين هاتين المعرفتين للخطر، فتعوق تعلم المتعلم (Michel Serres).

إننا نطلب من التلاميذ، أحيانا، أن ينجزوا ما يعرفون فعله، كما قد نطلب منهم أن يخطوا خطوات تفوق طاقاتهم. وهذه مسألة يجب أن نعيها، إذ هناك مسافة بين طبيعة معارف التلميذ و"مشروع" المدرس، إن جاز القول. وهذا ما يخلق ما يسمى بالتوتر الديداكتيكي. إن هذه المسافة طبيعية، لكن يجب ألا تكون كبيرة جدا. ولا تكمن المشكلة في الصعوبة في حد ذاتها، وإنما في أن الاشتغال على موضوع جد معقد قد لا يكون له معنى بالنسبة للتلميذ، أو قد يصعب عليه استيعابه، ما قد يشل تفكيره... لهذا، ينبغي أن يحس المتعلم بأنه معني، ويعرف أن في إمكانه التوصل إلى مداخل عديدة لاستيعاب موضوع دراسته اعتمادا على التقاط معالم ومؤشرات تساعده على منحه معنى... كما يجب أن تتوفر له الشروط التربوية التي تمكنه، ولو جزئيا، من القدرة على تمثل الهدف الذي ينبغي تحقيقه.

أحيانا، نلاحظ أن المتعلم يفقد جزءا من قدراته ومؤهلاته... عندما  يوضع أمام مهمة صعبة. ففي الدرس اللغوي مثلا، قد يعجز التلميذ، في لحظة معينة، عن استعمال الكفايات التي اكتسبها من قبل وسبق له أن استعملها في وضعيات سالفة. من ذلك أنه قد يفقد القدرة مؤقتا على استعمال النقط والفواصل وعلامات الترقيم الأخرى التي سبق له أن اكتسبها عندما يدخل في كتابة بنية نص جديدة، كأن ينتقل من كتابة نص سردي إلى آخر تفسيري.

وقد يحدث الشيء نفسه عند إنتاج التلاميذ لنص معين، حيث يلاقون صعوبات في التحكم في المضمون الذي يريدون التعبير عنه، وفي كيفية كتابته. وهذا ما لا ينتبه إليه المدرسون ولا يحللونه...

على العكس من ذلك، عندما يكتب بعض الراشدين نصا معينا، فإنهم لا يهتمون بمشاكل الإملاء والنحو...، إذ يكتبون بكل تلقائية لأنهم متحكمون فيها. لكن الأمر قد يصير بخلاف ذلك عندما ينتقلون إلى الكتابة بالحاسوب دون تدريب سابق على كيفية استعماله. فقد يبتلعهم الجانب التقني إلى حد مصادفتهم صعوبات في تطوير أفكارهم ومعالجة أسلوبهم والصياغة الدقيقة لما يريدون التعبير عنه... وهكذا، قد نجدهم عاجزين جزئيا عن توظيف مجموع الكفايات التي اكتسبوها سابقا، بسبب وجود عوائق مرتبطة بخبرات أخرى ينبغي تدبيرها في الآن نفسه.

إن التلاميذ في حاجة إلى اكتساب تلك التلقائية، ويتعين أن يكون ذلك هدف المدرس. ولا ينبغي الاعتقاد أن الارتكاز الكبير على هذه التصرفات التلقائية يعني الاشتغال مثل الآلة. ففي الواقع، يتعلق الأمر بالاقتصاد في الطاقة والجهد، وتحديد المسائل التي ينبغي حلها في حقل كفايات معين، مما يمكن من تكريس الذات كليا لحل مسائل أخرى، والتركيز على الأنشطة التي تتطلب ابتكارا وإبداعا. فالإنسان يمتلك طاقات كبيرة  يجب استعمالها (G. De Vecchi et N. wCarmona Magnaldi,).

لا يمكن التخلي عن تطوير الوضعيات المعقدة، لكن ينبغي تسليط الضوء عليها ومعرفة حدودها. فليس أمامنا اختيار آخر، إذ لا يمكن بناء المعارف بفعالية إلا عبر الوضعيات المعقدة. لكن يجب ألا تنصب مطالب المدرس على كل شيء دفعة واحدة. ولا يعني تجنب تحميل التلاميذ ما يفوق طاقتهم المعرفية ألا نطالبهم باستعمال مجموعة كبيرة من المهارات دفعة واحدة، بل ينبغي تشغيل هذه الأخيرة عبر برمجتها زمنيا. انسجاما مع ذلك، فإن الأمر يتعلق بالبحث الدائم عن توازن عبر جعل الوضعية التكوينية تدفع، ما أمكن، بالمتعلم في اتجاه التطور نحو الأعلى…

وتبعا لذلك، ينبغي أن يرافق المدرس التلميذ أبعد ما يمكن في تعلمه، ويثير حريته وفضوله، ليقرر هو ذاته الانخراط في مغامرة المعرفة. ويقتضي ذلك تطوير إطار ديداكتيكي ملائم لمستوى النمو الذي ينبغي تجاوزه، وتشجيع التلميذ على الخوض في المجهول، إذ هو قادر على تعلم أشياء أكثر فأكثر صعوبة مما يعرفه...

 Conseiller à un ami

Vous ne pouvez pas poster de commentaire.

الكلمات المفتاحية