التَعَلُّمَ والخطأ: محمد بوبكري
محمد بوبكري

التَعَلُّمَ والخطأ

07/04/2015 15:10

يرى دارسو تاريخ العلوم أن هذا الأخير قد عرف الكثير من الأخطاء التي يرجع الفضل إليها في تقدم العلوم وازدهارها...

التَعَلُّمَ والخطأ

Boubekri - Vous n'avez pas le droit de voir cet objet.

محمد بوبكري

يرى دارسو تاريخ العلوم أن هذا الأخير قد عرف الكثير من الأخطاء التي يرجع الفضل إليها في تقدم العلوم وازدهارها... وإذا كانت شهرة طوماس إديسون Thomas Edison راجعة لاختراعاته العديدة وعلى رأسها المصباح الكهربائي، فإنها راجعة أيضا إلى الفشل المتكرر الذي طبع عمله قبل توصله إلى اكتشافاته... فبعد تفجيره لثلاثة مختبرات، بدأ أصدقاؤه يضغطون عليه ليغير مهنته بمهنة أخرى، لكنه كان يردُّ عليهم بأنه أصبح، بفضل تلك الأخطاء، يعرف أكثر من أي وقت مضى كيف يُنجز ما يريد إنجازه، وأنه استفاد من فشله المتكرر، ما يجعل نجاحه مؤكدا لا محالة.

ويروي بعض المهتمين أن "إديسون" قد قام بعشرة آلاف محاولة قبل اكتشافه المصباح الكهربائي. وعندما استغرب أحدهم لمثابرته واستمراره في المحاولة رغم فشله المتكرر، أجابه هذا العالم قائلا: " إنني لم أفشل، بل اكتشفت عشرة آلاف طريقة لا تفضي إلى اختراع المصباح الكهربائي".

إن ارتكاب الأخطاء Erreurs ظاهرة بشرية طبيعية. ومن المفيد أساسا اعتبارها جزءا لا يتجزأ من سيرورة تَعَلُّم الإنسان وتطوره.

يحيط بكلمة "خطأ Erreur " لبس، مما يفرض الإشارة إلى أن الخطأ التربوي يختلف عن الأخطاء التي يمكن أن تُرتكب في مجالات أخرى. فالخطأ مفيد في حقول العلوم والتربية، لكنه مرفوض تماما في مجالات القضاء والطب. أضف إلى ذلك أن النازية والفاشية وكل الاتجاهات التي تنحو نحوهما هي جرائم، وليست أخطاء كما يُرَوِّج البعض.

عندما يتعلم الطفل المشي أو ركوب الدراجة الهوائية، فإن الأمر يتطلب منه الانخراط في سيرورتين معقدتين يستعصي تحليلهما بتفصيل. ومع ذلك، فإن الخطأ والفشل لا يوجدان بالنسبة إليه، حيث يحاول الوقوف والخطو أو ركوب دراجته، فيسقط، ويصطدم بكل الكائنات والأشياء الموجودة في طريقه... لكنه سرعان ما ينهض، ويَُصلح من شأنه من جراء ما تعرض له من جروح ورضوض طفيفة، ثم يُعيد الكَرَّة من جديد. إن هدفه الوحيد هو الوقوف والمشي على قدميه، أو ركوب دراجته الهوائية... فضلا عن ذلك، يساهم أهل الطفل وأقرباؤه في سيرورة التعلُّم، حيث يشجعونه ويدعمونه ويفرحون أو يبكون معه. إنهم مقتنعون أن أسلوب المحاولة والخطأ هو الوسيلة الوحيدة للتعلُّم.

يحكي بيتر كلاين Peter Kline تجربة مهمة قام بها أحد أساتذة الثانوي. لقد كان لهذا المدرس فصلان دراسيان ينتميان إلى نفس المستوى الدراسي، لكن كان أحدهما يتكون من تلاميذ جيدين، والثاني من آخرين غير جيدين. ويحكي هذا المدرس أنه استطاع أن يحول، بسهولة، المجموعة الجيدة إلى غير جيدة، والمجموعة غير الجيدة إلى جيدة. ويفسر ذلك بأنه كان كلما أخطأ تلميذ ينتمي إلى المجموعة الجيدة، عاقبه. وإذا أخطأ تلميذ من المجموعة غير الجيدة، بذل قصارى جهده من أجل توفير شروط أفضل لتشجيعه على التقدم... وهكذا، أصبح، بسرعة كبيرة، غير الجيدين جيدين، والجيدون غير جيدين. وطبعا، لم يستمر المدرس في ممارسة هذا النهج التخريبي تجاه التلاميذ الجيدين...

تقوم أغلب أنظمة التعليم بالمعاقبة على ارتكاب الخطأ عوض الاستفادة منه. ويعود ذلك إلى نظرتها الخاطئة لطبيعة المعرفة ولكل من التلميذ والمدرس وما يجمعهما من علاقات، وإلى استعمالها السيئ لللامساواة الموجودة بينهما وعدم قدرتها على توفير الشروط التربوية الضرورية لكي يتجاوز المُتَعَلِّم ذاته باستمرار... وهذا ما جعل المدرس، في ظل نظام التعليم التقليدي، ينظر إلى الخطأ بكونه خطيئة أخلاقية مناهضة للدين والثقافة والنحو والرياضيات... كما أنه يعتقد أن خطأ التلميذ إرادي هدفه الإساءة إلى المدرس والمعرفة في آن. وهذا ما يجعل رده عنيفا على أخطاء التلميذ.

عندما يتعرض التلميذ للعقاب والإهانة بسبب الأخطاء التي يرتكبها في تعلُّمه، فإنه يتوصل إلى أن ميزان القوى المعرفي القائم بينه وبين المدرس والمؤسسة التعليمية ظالم ومُخَرِّب بشكل كامل. نتيجة ذلك، فإنه يتوقف عن التفكير، فيلوذ بالصمت، ويصبح هدفه الأساس هو تجنب مغامرة الكلام أو الفعل داخل الفصل المدرسي حتى لا يرتكب أخطاء تجلب له العقاب والإهانة...

هناك كثير من النفاق اللاواعي الذي يمارسه الكبار تجاه أخطاء الأطفال والمراهقين. فقد يستطيع الآباء والمدرسون التمييز بين "الصواب" و"الخطأ"، وما هو مرغوب فيه وما هو مرفوض. لكنهم يجدون صعوبة في الاعتراف بأنهم ذاتهم ارتكبوا ويرتكبون أخطاء بشكل مستمر. وهذا ما يشكل تناقضا.

أضف إلى ذلك أنه غالبا ما يستند المدرس إلى أخطاء التلميذ للحكم على كفاءته، وعلى قدرته على فهم مادته الدراسية، بل إنه يعتمدها في التنبؤ بمستقبله ومصيره...

فعندما يكون في إمكاننا أن نخطئ دون أن نتعرض للعقاب من جراء ذلك، فإننا نطور ثقتنا بأنفسنا، ونكون أكثر جرأة، فنخاطر بركوب مغامرة المعرفة... تبعا لذلك، سيكون مفيدا تطوير وضعيات تعلُّمية تمكن التلميذ من تطوير هذه القدرة على التجرؤ والمغامرة معرفيا. وإذا كان التعلم مزعجا بما يتطلبه من مجهود من قِبَل المتعلم...، ينبغي أن يتوفر لهذا الأخير محيط مُطََمئِن تتسم فيه العلاقات بالاحترام والتعاون، ما يُمكِّن المدرس من مساعدة التلميذ على الاستفادة من أخطائه، وتطوير ثقته بنفسه، والخروج من عزلته، والانخراط في سيرورة بنائه لذاته عبر تطويره لمشروعه الشخصي أو المهني... هكذا، فإن التشجيع على الجرأة والمغامرة واتخاذ القرار هو أساس التعلم النوعي.

إن الذين يرتكبون أخطاء قليلة هم عموما أولئك الذين لا يتجرأون ولا يخاطرون. لكن لكي تتطور الحياة لصالح الفرد والمؤسسات والإنسانية، ينبغي أن يركب الإنسان المخاطر، ويتقبل ارتكاب الأخطاء، ويعمل على الاستفادة منها لتجاوزها. ومن المؤسف جدا أن نجد أناسا لا يفعلون شيئا، ويكتفون فقط بنقد ما يتم عمله من قِبَل الآخرين، وهم لا يعون أنه لا مستقبل لما يقومون به، لأنهم لا يُطَوِّرون مشروعا ولا ينجزون شيئا... وهذا ما يحول دون تقدمهم وتطوير قدراتهم الإبداعية...

تحضرني حكاية بطلها إطار كبير يعمل بشركة أمريكية، حيث يحكي هذا الرجل أنه طوَّر منتوجا جديدا، لكن العملية عرفت فشلا تسبب للشركة في خسارة مليون دولار. فنادى عليه المدير العام، وكان متأكدا من أن هذا الأخير سيبلغه قرار طرده من عمله. فلما دخل عليه، خاطبه المدير العام قائلا:

-        لقد تسببت للشركة في خسارة مليون دولار.

فأجبه:

-         نعم سيدي

فنهض المدير العام من مقعده، وشدَّ على يديه قائلا: "أريد أن أهنئك، لأنه لا نجاح في إنجاز المشاريع بدون اتخاذ قرارات. ولو تجنبت اتخاذ القرارات، لما مُنيتَ بالفشل والخسارة. إنني مع اتخاذ القرارات، ويقوم عملي على جعل المسؤولين قادرين على اتخاذها، لكنك إذا ارتكبت الخطأ نفسه مرة ثانية، ستفقد عملك. ثم أردف قائلا: أتمنى أن تتخذ قرارات كثيرة، وأنا متأكد أن قراراتك المستقبلية ستعرف نجاحا أكثر...".

وهناك من يضيف إلى هذه الحكاية أن هذا الإطار قال لمدير الشركة: "كنت أعتقد سيدي أنك ستطردني من العمل بعد الخسارة المالية التي تسببت فيها للشركة. فردَّ عليه المدير العام قائلا: "هل تمزح؟! لقد أنفقت مليون دولار من أجل تكوينك، وأتمنى أن تكون قد استفدت من دروس هذا الفشل".

تؤدي معاقبة الإنسان على أخطائه خلال تَعَلُّمه إلى إحجامه عن استعمال عقله الخاص، ما يقوده إلى الانغلاق والجمود... وهذا ما يعوق انخراطه في الحداثة، حيث إنها، أساسا، اقتلاع الذات وخروجها من وضعية سابقة إلى وضعية أكثر تقدما. وقد ورد هذا الخروج في الفقرة الأولى من النص الذي كتبه إيمانويل كانط E. Kant جوابا على سؤال: ما الأنوار؟

يقول كانط: الأنوار هي خروج الإنسان من حالة القصور التي هو نفسه مسؤول عنها. ويعني القصور عجز الإنسان عن استخدام "ملكة" الفهم (القدرة على التفكير) دون وصاية الآخرين. والإنسان مسؤول عن هذا القصور لأن سببه لا يعود إلى عيب في ملكة الفهم، بل إلى نقص في اتخاذ القرار وفي الشجاعة التي تمكنه من أن يستعملها دون وصاية الآخرين. يقول كانط: تجرأ على التفكير! لتكن لك الشجاعة على استخدام ملكة فهمك الخاص!. فالذات تكون في حالة قصور عندما تطيع بدل أن تفكر...

هكذا، لا يمكن أن يتجرأ المتعلم على استعمال فهمه الخاص، إذا كان يُعاقب على ما يرتكبه من أخطاء عند إقدامه على التفكير... تبعا لذلك، يجب تغيير نظرتنا إلى الخطأ بهدف الاستفادة منه تربويا، وكذا في شتى مناحي الحياة.

يلعب الخطأ دورا بناء في التعلُّم عندما ننتبه إليه باكرا. ويقتضي هذا أن نتوصل بإشارة من أحد أقاربنا، أو ملاحظة من مدرسنا، أو أي رد فعل خارجي ينبهنا إلى ما ارتكبناه أو ما نرتكبه من أخطاء. فعندما يبدأ الطفل الكلام أو المشي، فإنه يتوصل في كل لحظة بتوجيهات معقدة من قِبَلِ محيطه يتعرف من خلالها على أخطائه وعلى مدى تقدمه في التعلم... ونجد الشيء نفسه لدى الراشد عند تعلُّمه السياقة أو العزف على الكمان أو لغة أجنبية، حيث إن الأقارب يقومون بردود فعل لتنبيهه لأخطائه وتوجيهه...

ولكي نتعلم جيدا وبسرعة، يجب أن نتوصل بـ "تغذية راجعة" feed-backكافية ومقنعة وسريعة لكي لا يترسخ الخطأ ويزداد استعصاء على التجاوز من قِبَلِ المتعلم... وهذا ما يتطلب أن يتحدث المدرس أمام تلاميذه بصوت مرتفع عن كل الأسئلة التي طرحها على ذاته عبر مسار تطوره المعرفي، والمشاكل التي واجهها في طريق تعلمه، والصعوبات والعوائق التي تَمَكن من تجاوزها، والأساليب ووسائل التي استعملها في ذلك. يجب أن يُبرز المدرس أخطاءه الخاصة مبينا مساهمتها في تقدمه معرفيا... هكذا، يمكن للتلاميذ أن يستفيدوا من محاولاته وتجاربه وأخطائه معتبرين ارتكاب الخطأ أمرا طبيعيا شريطة الاستفادة منه وتجاوزه...

إن التقويم لا يُمَكِّن المتعلم من التقدم إلا إذا صار، على نحو ما، تقويما ذاتيا. ويتحقق ذلك عندما يتبنى التلميذ ما يوجه إليه من نقد ويدمجه ضمن دينامية تعلمه الخاصة. هكذا، يلزم المدرس دعم تلاميذه، وتلبية حاجاتهم، وتقويم أنشطتهم وأدائه الخاص ذاته. فضلا عن ذلك، ينبغي أن يثير فضولهم، ويولِّد لديهم الإحساس بكفاءتهم وتقديرهم لذواتهم والثقة فيها، ويقيم مناخا يطبعه الدفء والود داخل الفصل الدراسي...

إذا كان الخطأ من طبيعة الإنسان وسبيلا للاقتراب من الحقيقة، فإن الاستفادة من توظيفه تربويا لا تساهم فقط في نمو المتعلم معرفيا...، بل إنها أيضا يمكن أن تشكل مدخلا أساسيا للتربية على الديمقراطية، إذ إن هذه الأخيرة هي، أساسا، الاعتراف باحتمال خطأ الذات، وبأن الإنسان قد يتعلم من الآخر الذي قد يكون على صواب... وإذا ما استوعب المتعلم ذلك، فإنه سينأى بنفسه عن الفكر والنظام الشموليين، حيث سيقبل اختلاف الآخر عنه، بل يراه ضروريا لإقامة الحوار الذي يشكل سبيلا لإصلاح الأخطاء والتقدم والعيش معا في جو يسوده الاحترام والسلام...

 Conseiller à un ami

Vous ne pouvez pas poster de commentaire.